أنواع الابتلاءات

أنواع الابتلاءات
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: لا جرم أنّ الإنسان يتعرّض لأنواع شتّى من الابتلاءات، فما أخطرُ أنواعها على القلوب المؤمنة في وقتنا الراهن؟

الجواب: اقتضت سنّة الله سبحانه وتعالى أن يخضع الناسُ لابتلاءات شتى طوال حياتهم؛ حتى يميز الخبيث من الطيب والصالحَ من الطالح كما هو الحال تمامًا في استخلاص الألماس من الفحم، والذهبِ من الحجر والتراب. وفي الوقت ذاته فإنّ كلّ ابتلاء هو لإطْلاعنا على ماهية أنفسنا؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى الذي يَعرف قدرنا وقيمتنا في الأزل يكشف لنا من خلال هذه الابتلاءات عن مدى مقاومتنا للمصائب والبلايا وكيفيةِ تعاملنا معها، وهل صبرنا عليها أم تملصنا منها، وهل تجلدنا وتحملنا أم وقفنا منها موقف المعارض؛ الذي يعارض وينتقد القدر الإلهي.

أجل، إن هذه الابتلاءات تُطْلعنا على حقيقة أنفسنا، وكما يقول الشاعر التركي يونس أمره: “إن هذا الطريق طويل، ومنازله كثيرة، وممراته مسدودة، ومياهه عميقة”. إنه بهذا القول يحدّثنا عن حقيقةٍ مفادها: أنّ الناس في حياتهم الدنيا سيظلون دائمًا في مكابدة وعناء ويخضعون للتمحيص والتنقية والانصهار كما يُصهر الحديد في المناجم.

شدّة الابتلاء بقدر عظمة الهدف

يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 155/2). فالله تعالى يذكر في مستهلّ هذه الآية أن الناس في هذه الدنيا يخضعون لابتلاءات شتى، وبعد ذلك يزفّ البشرى لمن يصبرون على هذه البلايا والمصائب. فكما أن العبادات تَرفع مرتبة الإنسان فإن الابتلاءات التي تُعدّ من “العبادات السلبية”[1] هي أيضًا تطهِّر الإنسانَ من الآثام بشرط أن يصبر عليها، فترفعُه إلى أعلى المقامات وأسماها. بناءً على ذلك فإن على المؤمن أن يصبر إزاء ما يسوقه الله من ابتلاءات مختلفة ومتتابعة، ويتجلّدَ أمام كلّ ابتلاء يتعرض له، ويعتبرَ هذا الموقف فرصةً كي يواجه نفسه، ويراجعها مرةً أخرى، ويتساءل في نفسه: هل وقف من كل هذه الأمور موقف المؤمن “الناضج”؟

وثمة قاعدة مهمة تقول: “الغُنْمُ بالغُرْم”، أي إن المشقة والصعوبة تكون في النهاية على حسب الثواب والجزاء. ووفقًا لهذه القاعدة تختلف شدة الابتلاء تبعًا لقيمةِ وعظمةِ الهدف الذي ينشده الإنسان.

فعلى سبيل المثال، الاستشهادُ والتحليق نحو “مرتبةٍ أخرى من مراتب الحياة شرفٌ عظيم، ولكن لا يتأتّى هذا الشرف إلا بالجهاد في سبيل الله والتضحيةِ بالنفس ابتغاءً لمرضاته سبحانه وتعالى. ومن ثمّ ينبغي لمَن تعلق قلبه بغاية سامية ويحاولُ الإتيان بما تقتضيه هذه الغاية أن يتحمل في سبيله ويتجلَّدَ ويصبر أمام ما يحل به  من بلاء أو مصيبة مهما كان نوعها، بل ويواصلَ حياته على الرغم من نفسه.

وأستبيحكم عذرًا هنا لنتوقف قليلًا حتى نصغي لهذه الكلمات من الأستاذ النُورْسي رحمه الله: “لم أذق طوال عمري البالغ نيّفًا وثمانين سنةً شيئًا من لذائذ الدنيا؛ قضيت حياتي في ميادين الحرب، وزنزاناتِ الأَسر، أو سجون الوطن ومَحاكمِ البلاد. لم يبق صنف من الآلام والمصاعب إلا وتجرعته. عوملتُ في المحاكم العسكرية العرفية معاملة المجرمين، ونُفيت وغُرِّبْتُ في أرجاء البلاد كالمشردين. وحُرِمْتُ من مخالطة الناس في زنزانات البلاد شهورًا. وتعرضت للتسميم مرارًا. وتعرضت لإهانات متـنوعة. ومرت عليَّ أوقات رجَّحْتُ فيها الموت على الحياة ألف مرة. ولولا أن ديني يمنعني من قتل نفسي، فلربما كان سعيد ترابًا تحت التراب” (بديع الزمان سعيد النورسي، السيرة الذاتية، ص: 457).

أجل، لما كانت الابتلاءات التي تعرّضَ لها الأستاذ النورسي قاسيةً إلى هذا الحد رفعه الله تعالى إلى ذروة الكمالات الإنسانية. ولا ندري لعل الله تعالى، لصبره رحمه الله على الابتلاءات والمصاعب التي تعرّض لها جعله الله هاديًا ومرشدًا لمن خلفه تفضلًا منه وتكرمًا وإحسانًا.

هناك من تعثرت بهم الطريق

إنّ حياة الإنسان من أولها إلى آخرها تعد سلسلةً من الابتلاءات. والإنسان لا يُبتلَى في هذه الدنيا بالبلايا والمصائب فحسب، بل يُمتحن كذلك بالنعم والمكتسبات المادية والمعنوية.

أجل، إنّ الإنسان قد ينزل منازل ويمر بمراحل في حياته، بعضها يبهره، والبعض الآخر يسوقه -حفظنا الله-  إلى أن تزلّ قدمه، بل إنّ بعض الفيروسات والميكروبات التي تَعْلَق به في هذه المقامات والمنازل تتسلط على حياته المعنوية. باختصار: إن الإنسان عند مروره بمثل هذه المقامات والمناصب يُبتلى أحيانًا بالراحة والرفاهية وأحيانًا بالصيت والشهرة، وأحيانًا بالمقام والمنصب، وأحيانًا أخرى بتصفيق الناس وتبجيلهم.

ويَضرب الإمام الغزالي عدة أمثال على الابتلاءات التي يواجهها الإنسان[2] ما ملخصها: إن الإنسان يسلك طريقه بكلّ عزم وتصميم إلى بلدة جميلة كالجنة؛ لأنه أُخبِر مسبقًا بالجماليات الرائعة الخلابة لهذه البلدة، ولكن يعترض طريقه مكانٌ مريح لطيف يخرّ فيه الماء وتحفّ فيه الأشجار وتغني فيه الطيور وتدعوه الظلال إلى الركون والراحة، فينسى البلدة التي يسعى إليها، ويقرر البقاء في هذا المكان، ويقوم من فوره ببناء كوخ والإقامة فيه”.

إن هذا المثال يعبّر بشكل وجيز وملفت للنظر عن رحلة الإنسان في هذه الحياة.

وهناك صوَر أخرى من الابتلاءات في منازل حياة الإنسان غير ما ذكرنا، بمعنى أنه سيظل طوال الطريق يتعثر بكثير من الأشياء بالإضافة إلى الاستكانة إلى الدعة والراحة والولع بهما، والحال أنه لا يتأتى بلوغ الجنة والوصولُ إلى رضا الله دون اجتياز هذه المراحل.

الطمع في الثروة

ومن أهم هذه النوعية من الابتلاءات التي يُتعرض لها في الحياة الدنيا الرغبةُ في المتاع والملك، والطمعُ في المال. بل يمكن القول: إنها ظلت أكبر نقاط الضعف للغالبية العظمى من الناس على مرّ التاريخ. وهي الحقيقة التي عبر عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث النبوي الشريف: “لَوْ أَنَّ لِابْنِ اٰدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ” (البخاري: الرقاق، 10؛ مسلم: الزكاة، 116) أجل، إن الاستكثار من المال بشره وطمع لا ينقطع، والسعيَ إلى امتلاك شركات ومجموعات قابضة أكبر حجمًا، ومحاولةَ السعي لامتلاك كل شيء نقطةُ ضعف لدى غالبية الناس. والواقع أن الذي يقف وراء الكثير من الصراعات والاشتباكات الجارية في المجتمع اليوم هو السباق على المصالح من هذا القبيل.

وعندما تعرَّض محي الدين بن عربي للضغط والتضييق ذات مرة في دمشق ضرب رجله على الأرض قائلًا: “إلهكم الذي تعبدونه تحت قدمَيَّ. “ويَعتبر البعضُ كلماته هذه سببًا لتكفيره، والحال أنه يرى أن مخاطبيه شُغفوا بالمال؛ مَثلهم في ذلك مثل قارون، وصاروا وكأنهم بدؤوا يعبدونه. أما  فقد تبين بعد زمن طويل أنه بقوله: “الإله الذي تعبدونه”،  قصد كنزًا عظيمًا كان مدفونًا تحت موطئ قدميه.

والحقيقة أن الكثيرين في يومنا الحاضر -للأسف- يُهلكون أنفسهم في هذا السبيل؛ إذ يمكنكم أن تروا كثيرًا من عُبّاد الدنيا دخلوا هذا الطريق بفكرةِ: “ليكن لديَّ بيت”، ويعيشون وهم تسيطر عليهم فكرةُ “لا بد أن أشتري بيتًا لابني أيضًا، وأمتلك آخر لابنتي، ويجب أن يمتلك حفيدي فيلَّا…”. بل ربما تتقابلون مع أناس بدؤوا طريقهم لأجل الخدمة في سبيل الله، ثم هرولوا وراء هذه النوعية من الرغبات لدرجة عبادة المال، حتى إن بعضًا من هؤلاء لا يكتفون بالرواتب التي تعطى لهم، فيتركون الخدمات الضرورية جدًّا بالنسبة للدين والأمة ِكي يربحوا أموالًا أكثر، وهكذا ينخرطون في طريق أهل الدنيا تاركين الطريق الذي سار فيه السلف الصالح.

الولع بالشهوات

إن الولع بالشهوة ابتلاء آخر من الابتلاءات الخطيرة الصعبة في يومنا الحاضر بصفة خاصة. فمع أن مصيبة الشهوة كانت عنصر امتحان صعب على مرّ تاريخ الإنسانية فقد صارت اليوم امتحانًا أكثر خطورة.

وهناك حكاية يحكيها مولانا جلال الدين الرومي في مثنويّه تتعلق بالشهوة: يطلب الشيطان من الله ما يستطيع استخدامه لإغواء البشر، ويضلهم به؛ فيعطَى الثروةَ، والمنصب، والشهرة… غير أنه لا يرضى بأي منها، وفي النهاية يُعطَى القدرة على استخدام المرأة ضد الرجل، والرجلِ ضد المرأة، فيُسرُّ به كثيرًا.

ورغم أن هذه الحكاية لم ترد في المصادر الأصلية، إلا أن الأمر المهم هو تلك الحقيقة التي عبرتُ عنها. أجل، إن الشهوة هي أهم عنصر من عناصر الامتحان في الدنيا بالنسبة لبعض الطبائع. ويمكن ربط هذه الحقيقة بالحديث النبوي الشريف القائل: “حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ” (البخاري: الرقاق، 8؛ مسلم: الجنة، 1) أجل، فالطريق المؤدية إلى الجنة طويلة، مراحلها كثيرة، وتقطعها السيول وأنهار الدم والصديد، في حين أن في السبيل المنتهية إلى جهنم ما يروق النفس مثل الأكل، والشرب، والسعي وراء رغبات النفس. ومن وقع فيها انساق واندفع خطوة فخطوة إلى أسفل سافلين دون أن يشعر على الإطلاق.

الرغبة في الشهرة

إن السعي وراء التقدير، والمنصب، والمكانة، وربطِ الأشياء المنجَزة بتقدير الناس واحدٌ من بين الامتحانات التي خسرها الكثيرون. فالشهرة التي ذكرها الأستاذ بديع الزمان في رسالته المسماة: “الهجمات الست” باسم: “حبّ الجاه”، وشبَّهها في “المثنوي النوري” بالعسل المسموم واحد من نقاط الضعف المهمة التي قد يعلق بها بعض الناس. وينبغي ألا يُنسى على الإطلاق أن الإنسان الضعيف لدرجة أنه يحاول نقل بلاهة الشهرة إلى الآخرة لن يتوانى عن فعل أي شيء في الدنيا من أجل الحصول على الشهرة.  

اللهم احفظنا جميعًا من التردي في تلك الوهاد القاتلة، ويسر لنا الانتقال إلى الآخرة بتأشيرة الإيمان وشعور الإحسان.


[1]  والمقصود بسلبية العبادة هو أن المصيبة تكفّر خطايا المؤمن مع أنه لم يقم بأي عبادة بإرادته، فالمراد بالسلبية هنا العَدَمية، فكأن تكفير الذنوب يترتب على العدم وهو الحرمان من الصحة واللذائذ والراحة ونحوها، بالإضافة إلى أنه يؤجر عليها إن صبر.

[2]  إحياء علوم الدين، 3\214-219.