قسوة القلب

قسوة القلب
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

   سؤال: ما هي مظاهر قساوة القلب وما أسبابها وما وسائل النجاة منها؟

   الجواب: قسوة القلب تعني غِلظته، والإنسان غليظ القلب بحسب إفادة الشيخ بديع الزمان لا يمكنه أن يتخلص من الحيوانية، ولا أن يتجرد من الجسمانية، ولا قدرة له على الارتقاء في مدارج حياة القلب والروح ويعيش حياته جاهلًا بأفق الروح، وأحيانًا وبحسب درجة قسوة قلبه وغفلته يتحرك ويعيش كأنه لا وجود للآخرة؛ فلا يمر على فكره وعقله القبر ولا الميزان ولا الحساب ولا الصراط، ولا يخاف من الانكباب والوقوع في جهنم، ويعيش متجاهلًا الجنةَ ونعيمَها والرضا والرضوان.. إن صاحب القلب القاسي لا يمكن أن يرى تجلّيات أسماء وصفات جناب الحق تعالى المتجلّية في كتاب الكون، ولا يمكن أن تنفتح له آفاق الأسماء الإلهية ولا الصفات السبحانية.

   آليات تحافظ على حياة القلب

لا شك ولا شبهة في أن استمرارية الحياة القلبية مرتبط بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أولًا وقبل كل شيء أن يؤمن بالله حق الإيمان، وأن يراجع إيمانه في كل وقت وحين، وأن يتحرر من الإيمان التقليدي ويرتقي إلى الإيمان التحقيقي، وعليه أن يجعل الإيمان جزءًا من طبيعته وفطرته، أما إيمانه النظري فعليه أن يغذيه ويُتَوِّجه بالعبادات والطاعات التي يؤديها في خشوع وخضوع، ومن يلتزم ذلك يظلّ قلبه حيويًّا ونضرًا.

إن معرفة الله ومحبة الله والذوق الروحاني أسسٌ مهمّة جدًّا لحيوية القلب، ونطلق على المعرفة أيضًا “ثقافة القلب”، أي أن يُصبحَ العلمُ والمعرفة الإلهية جزءًا من طبيعة القلب واللطيفة الربانية عن طريق الرياضة المستمرّة، وهذه المعرفة الحاصلة تختلف تمامًا عن المعلومات المكتَسَبة عن طريق الحواس أو الإدراك العقلي.

ومعرفةُ الله تُثمرُ محبة الله تعالى، فالإنسان العارف يحب الله عز وجل.. لو عرفتَه لأحببته، وإن لم تعرفه لما توصلْتَ إلى حبِّه، وإذا كان مفخرةُ الإنسانية صلى الله عليه وسلم محبوبًا فذلك نتيجة لمعرفته، وبمعنى آخر يمكننا القول: إنه بمقدار العلم والمعرفة يكون الحبّ، أما من تعمّقوا في معرفة الله تعالى يشعرون بعشق ومحبة جنونية تجاهه، ويرتقون إلى مرتبة الهيام بما وراء العشق من الاشتياق إليه سبحانه وتعالى، فهذا من شأنه أن يُعمق معرفة الله تعالى، وكلما تعمَّقَت مناسبة الإنسان بالله تعالى صار لسان حاله الدائم يطلب الرؤية والرضوان، إن كل هذه الأمور المذكورة تبث الحياة في القلب، وتُعَدّ وسيلة أساسية لانكشاف اللطيفة الربانية، فإما أن يمتلئ القلب بالإيمان ومعرفة الله ومحبته أو يمتلئ قساوة وغلظة.

وكما أن عدم القيام بأعمال إيجابية من شأنه أن يقسي القلب، فكذلك القيام بأعمال سلبية يؤدي إلى ذات النتيجة، بمعنى أن ارتكاب الذنوب والمعاصي باليد والرجل والعين والأذن واللسان والشفاه، والانحرافَ عن طريق الحق والعدالة يؤدي إلى غلظة وقساوة القلب، وذلك لأن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال في بيانه الشريف: “إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ[1]، وكل نكتة سوداء تدعو أختها ومع مرور الأيام تكثر تلك النكات إلى أن تطمس القلب في النهاية.

ولقد وضَّح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المسألة بأن قَرَنَها بقوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سورة الْمُطَفِّفِينَ: 83/14)، وفي آية أخرى يصف الحق تعالى حال القلب الذي هو أشد قسوة من الحجارة بقوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/74)، وفي آية أخرى يقول: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/7)، بمعنى أن هذه القلوب منغلقةٌ تمام الانغلاق، فلا تدخل فيها المعرفة على الإطلاق، ومن جهة أخرى فإن الله سبحانه وتعالى ختم على هذا القلب الذي تحول إلى بؤرة فتنة وفسادٍ لئلا يتضرر الآخرون منه ومن أمثاله.

وبهذا الاعتبار فالوظيفة الأولى الواقعة على عاتق المؤمن هي القيام بالأفعال الإيجابية للمحافظة على حيوية القلب، وعليه أن يردد دائمًا “هل من مزيد؟” فيما يخص الإيمان والمعرفة والمحبة والعشق والشوق، وأن يقضي عمره في تهجية حروف وكلمات هذه المعاني العالية، ومن جهة أخرى عليه أن يبتعد عن كل ما هو سلبي، وألا يدع فرصةً لما من شأنه أن يُلّوِّثَ القلب أو يُقَسِّيه.

وإذا راجعنا كلام الشيخ سعيد النورسي مرة أخرى سنجده يقول: “إن كل معصية نرتكبها وكل شبهة تدخل إلى عقولنا، تفتح جراحات في القلب والروح، وهذه الجراح تهدد حياتنا الأبدية”[2]، ولهذا السبب فإن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ من قسوة القلب كما استعاذ من الشيطان الرجيم[3]، وحقيقة الأمر أنه بهذه الاستعاذة كان يؤدّي حق وظيفة الإرشاد، فينبغي لنا أن نستعيذ بالله دائمًا من تلوث القلب وانجراحه وقسوته وغلظته وختمه.

ومن جهة أخرى فكما أن الإنسان المصاب بانسداد في شريان القلب أو في عضلة القلب يقوم بإجراء عملية صمام القلب أو عملية منظم ضربات القلب، حتى تزول عنه أعراض مشكلات القلب؛ فكذلك الذي يعاني من مشكلات في لطيفته الربانية عليه أن يخضع نفسه للعلاج فورًا، ولا ينبغي له أن يعيش بقلب ملوّث أو قاس أو مليء بالجراح، بل عليه أن يحاول جاهدًا معالجتها حتى تقوم اللطيفة الربانية بوظيفتها على أكمل وجه، لأن القلب الملوث لا يتوجه إليه جناب الحق تعالى، والمكان الذي لا يتوجه إليه الحق سبحانه لا فرق بينه وبين الزِنزانة.

   رفقة الصالحين

وبجانب ما ذكرنا فمن الأهمية بمكان أن ينظر الإنسان مع من يجلس ويتحرّك ويصادق ومع من يقيم وشائج العلاقات، فمنذ القدم والصالحون من عباد الله يحذرون مريديهم من كثرة الاختلاط برجال الدولة والأغنياء، ويجب ألا يفهم الأمر على أن الغنى والثروة أو الاشتغال بالإدارة أمرٌ ملعونٌ ومنبوذ أو شيء من هذا القبيل، بل على العكس فالثروة والمنصب يشكّلان لصاحبهما نوعًا من الامتحان، إذا استخدمهما في الطريق الصحيح فقد فاز وأفلح، وإن أساء استخدامهما خاب وخسر.. والمسألة الأصليّةُ التي يجب أن نتوقّف عندها مليًّا هنا هي أن الكثيرين ممن يتعاملون مع هؤلاء يسعَون في أغلب الوقت إلى إرضائهم والتقرب إليهم ويصبحون في موقف المنة تجاههم، وهذا الأمر يُفقِدُ الإنسان حيثيَّتَه، ويُقلّل من شرفه وقيمته، ويؤثر بالسلب على صلة الإنسان بالله سبحانه وتعالى.

وإذا كان صاحب الثروة أو المنصب هذا يعيش حياته غافلًا، فإن مصاحبته ستؤدي إلى قسوة القلب، والابتعاد عن الله سبحانه وتعالى، وهو وأمثاله لن تجد في أفكارهم ولا في أقوالهم ولا في أعمالهم مكانًا لذكر الحبيب عز وجل، ولكن على العكس تمامًا فهَمّهم الوحيد هو الاستزادة من متَع الدنيا، والتلذّذ بالحياة إلى آخر لحظة، وأينما وُجدوا بحثوا عن التصفيق والتقدير والمدح والثناء من الآخرين، وإن قدموا المساعدةَ وصرفوا مما في أيديهم من إمكانات، فهذا يعني قد يفعلونه لكي يكونوا أصحاب منة، ولذا فالمخالطون لهم يبدؤون بالتشبه والتمثل بهم شيئًا فشيئًا.

وبهذا الاعتبار فعلى المهتمين بحياة قلوبهم، أن يختاروا جلساءَهم وأصدقاءَهم بدقة وحصافة، فبعضٌ من كبار الصالحين أفادوا بأن جلوسهم مع مَن لا يصلي، حرمَهم من اللذة الروحية للصلاة أربعين يومًا، وهذا أمرٌ يُظهر لنا أهمية المسألة بصورة جامعة مانعة، ولذا فيجب على الإنسان أن يصادق ويرافق من يستطيع أن يكون حديثه معه في كل آن حديثًا عن الحبيب سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان أن يرافق مَن يرفعُه حالُه ويدلُّه على الله مقالُه، أما صِلتهم بأهل الدنيا وأهل الغفلة فيجب أن تكون مربوطة بما يصبون إليه من غايات سامية وأفكار عالية.

إن المسألة التي نتناولها هنا ليست دعوة إلى أن يتخذ الإنسان موقفًا عدائيًّا تجاه من يخالفونه الرأي، ولا أن يكرههم، ولا أن يُغلظَ عليهم القول، ولا أن يتنازع ويتعارك معهم، بل العكس تمامًا فينبغي للمؤمن أن يُقابل جميعَ الناس بمشاعر الاحترام، ولكن إذا توجّب عليه اتخاذ موقف عدائيٍّ فليفعل ذلك تجاه صفاتهم السيئة، أي: لِيُعادِ ظُلْمَ الظالم لا شخصَه، وعداوةَ المعتدي لا ذاتَه.. فالموضوع الحقيقي الذي نحاول الوقوف عليه هنا هو المحافظة على صفاء القلب، وطريقُ ذلك أن يبتعد الإنسان عن هؤلاء الذين لا مكان لديهم للحياة الروحية والقلبية، ومن جهة أخرى أن يلازم أهل القلب بقدر استطاعته.

ولكن هذا يمثل أحد جانبَيْ المسألة فقط، ومن جانب آخر فعلى المؤمن من مقتضى عبوديته لله تعالى أن يتواصل ويتعامل مع كل الناس من أجل تغذية هذه الصدور المتعطشة بإلهامات روحه؛ لأن الذين ينعزلون ويبتعدون عمن يخالفونهم الرأي، لن يستطيعوا أن يظهروا ولا أن يشرحوا جماليات دينهم، كما أن عدم المحافظة على ديمومة العلاقة مع الآخرين سيؤدي إلى تفرق المجتمع وانقسامِه إلى جبهات متناحرة، ولذا عليكم أن تقتربوا من الآخرين بحيث إذا خطوتم نحوهم خطوة واحدة قابلوها بخطوتين نحوكم، وإذا خطوتم خطوتين قابلوها بأربع، وهكذا ستزول أسباب الخلاف والفرقة بين طوائف المجتمع المختلفة، ولذلك فإن اللقاءات لمثل هذه النية الخيرة والمقصد العالي، تختلف تمامًا عن اللقاءات التي تُعقد لرغبات النفس وهواها.

وكما يُرى، فإن اختيار الموضع والكيفية المناسبة لاتخاذ موقف تجاه أمر ما، مسألةٌ تحتاج إلى جهد ذهني، وعلى الإنسان ألا يقصّر أبدًا في أداء ما يجب عليه من خدمات، فَبِقدر قوّته وإمكاناته وموقعه عليه أن يبذل غاية وسعه، ولكن بعد أن ينتهي من الأمر عليه أن يقول: “ربما كان هناك أمور أخرى يجب عملها وأفعال أفضل كان يجب الوصول إليها؛ ولكن ربما لم يتم الأمر على الوجه المطلوب لعدم كفاءتي، بل بسبب ذنوبي وتقصيري، اللهم تقبل مني هذه الأعمال القليلة البسيطة، واغفر لي تقصيري وعدم تحقيقي لما هو واجب ولما هو أفضل”، فمثلُ هذا التفكير أكثرُ أمانًا للقلب المؤمن، أما الادعاء بأن كل ما فعله وقام به هو غاية الصواب فهذا تفكيرٌ فرعوني، ومَن يُفَكِّرُ على هذه الشاكلة حتى وإن لم يكن فرعونًا فإنه يحمل في نفسه سمات الفراعنة.

***

 [1]صحيح مسلم، الإيمان، 231.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللـمعة الثانية، ص 11.

[3] صحيح مسلم، الذكر، 73.