وَالصُّلْحُ خَيْرٌ

وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

   سؤال: يقول ربنا سبحانه وتعالى ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/128)؛ فما الرسائل التي تقدِّمها هذه الآية للمسلمين في ظلّ العولمة؟

   الجواب: إن العامل الرئيس وراء النزاعات والمشاحنات التي يشهدها عصرنا الحالي هو الاعتداد بالنفس إلى حد الغرور وعدم تقبل آراء الآخرين، فالجميع يسعى وراء إنشاء بنية بشرية وعائلية ومدنية ودولية وعالمية خاصة به، وبهذا الوضع يتعذر الاجتماع على نقطة معينة؛ طالما يسعى كل شخص وراء بنيته الذاتية ونموذجه الخاص.. لذا يحتار الإنسان بالانتساب والتبعية في هذا العالم الذي يقوم فيه كل مفكر وكل حركة وكل دولة ببناء الأفكار والأنظمة وفقًا له، ويعتبرها هي الحقيقة الوحيدة، ويتوقع أن يلتزم الآخرون بها، هذه للأسف هي الحقيقة الكامنة وراء التوترات والفوضى والخلافات التي نعيشها اليوم.

   الحلم والتسامح

وأعتقد أن العلاج القادر بحقٍّ على حل مثل هذه المشكلة هو إكسير الحلم والتسامح؛ بعبارة أخرى: إنَّ حلَّ مثل هذه المشاكل والخلافات منوطٌ بانفتاح الجميع على التوافق والتصالح بينهم وبين بعضهم البعض، وإلى استعدادهم إلى إنشاء حوار مع الآخرين، ولهذا فثمة حاجة ماسّة إلى التخلص من الأهواء والرغبات الذاتية، واستئصال مرض اعتبار المشاعر والأفكار الذاتية على أنها هي الحقيقة الوحيدة، ولا ريب أن هذا يرتبط بانسلاخ كل شخص من أنانيته الفردية، وتدمير “الأنا”، وأخذ قسط من الراحة في حضرة “نحن”، ثم الارتحال فيما بعد إلى “هو” (الله جل جلاله).

ومن الصعوبة بمكان بالنسبة لمن رزحوا تحت أنانيتهم الفردية والجماعية أو رنا حبُّ الحزبِ والجماعة على أبصارهم وقلوبهم أن يكونوا مستعدين للصلح أو مقابلة الأفكار الأخرى باحترام وتقدير، وما دام هؤلاء يقدمون مصالح جماعاتهم على كل شيء، ولم يقدروا على التخلص من التحيز والمحاباة؛ فلن يستطيعوا وضع إستراتيجيات الصلح التي تحقق الطمأنينة للإنسانية، والواقع أنهم لم يستهدفوا الصلحَ ولم يخطر ببالهم ذلك أصلًا، لأنهم لم يعتادوا الانفتاح على الاختلاف.

وفي الحقيقة لا توجد بدائل أخرى سوى الحوار والتسامح من أجل أن تعيش البشرية في سكينة وطمأنينة في ظل العولمة التي نشهدها، وحتى تهيمن ثقافة التسامح لا بد أن يتخلى الأفراد بل والمجتمعات عن رؤية أنفسهم الممثلين الوحيدين للحقيقة، وأن يضعوا في اعتبارهم دومًا احتمالية صحة الأفكار والمقاربات التي يطرحها الآخرون، ويجب ألا ننسى أن الأفكار المختلفة تنطوي على نصيب من الصحة على الأقل وإن لم تكن صحيحة بتمامها، وكما قال الأستاذ النورسي[1] رحمه الله إن هناك جزءًا من الحقيقة حتى في مذهب الجبرية والمعتزلة، ولكن هذه المذاهب أخطأت لأنها حصرت الحقيقةَ عليها فقط، وعلى ذلك فعند النظر إلى الأفكار المختلفة بهذه النظرة، واعتبار وجود جزء من الحقيقة فيها؛ فحينئذ يمكن التوصل إلى اتفاق حول الحقيقة.

لكل فردٍ في أيامنا حقيقةٌ خاصة به، والصحيح لدى البعض قد يبدو معوجًّا عند البعض الآخر، بل أحيانًا يكفي أن يأتي الإنسانَ شيءٌ من خارج الجماعة التي ينتسب إليها حتى يعتبره مائلًا معوجًّا، ولا يمكننا إيجاد بيئة مناسبة للخلاف القائم حول الأصح والأحق ما دمنا نشهر سلاح الدفاع ضد الأفكار المختلفة، ونتعامل معها بتحيّز وأحكام مسبقة، بل إننا أحيانًا نحاول الدفاع حتى عن الأفكار التي لا نؤمن بها باستخدام سلاح الديماغوجية، وندحض أحيانًا أخرى بعض الأفكار المبنية على أسس سليمة بديماغوجيات أخرى، وأحيانًا لا نصدق حتى ما نقوله.

ولكن إذا ظلت مثل هذه المفاهيم السقيمة تحافظ على وجودها في عصر العولمة الذي يتداخل الناس فيه رغم اختلافهم دينًا أو عرقًا أو ثقافةً، فلن يبقى هناك أثرٌ للأمان والطمأنينة في الأسرة والمجتمع، وفي هذه الحال يكون من المتعذر التوصل إلى نقطة مشتركة في العلاقات على مستوى الإنسانية وعلى الصعيد العالمي.

   الصلح يبدأ من الأسرة

ولقد دعا القرآن الكريم المسلمين إلى التوافق والتصالح واعتبار وجود جزء من الحقيقة في أقوال الآخرين وأفعالهم، فقال: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/128)، وكما هو معلوم نزلت هذه الآية الكريمة في شأنٍ خاص بالعائلة التي هي أصغر جزءٍ في المجتمع، وقد أشار الحق سبحانه وتعالى فيها إلى السبيل الواجب اتباعه لرأب الصدع والشقاق بين الأزواج؛ مؤكّدًا على ضرورة عدم اللجوء إلى الطلاق مباشرة، والرجوع بدلًا من ذلك إلى الاتفاق المتبادل، وبذلك يُكتَب البقاء للأسرة والديمومة لها.

فإذا كان الصلح كما أشارت الآية الكريمة هو السبيل لرأب الصدع والشقاق والزلزلة التي تحطم كيان الأسرة فالأولى أن يكون هو السبيل لمعالجة المشاكل التي تقع على مستوى البلدة والمدينة والدولة بل والعالم، وإذا كان الصلح خيرًا في بنية صغيرة تتكون من ثلاثة أو خمسة أفراد فسيكون خيرًا من باب أولى في دائرة يُرجى أن يتحقق فيها الأمن والأمان للملايين من الأفراد.

ولهذا فإن الوظيفة التي تقع على عاتق المؤمن هي العمل على تحقيق الصلح أيًّا كانت الدائرة التي ينتمي إليها، والسعي وراء الفوائد والخيرات التي يمكن أن تتحقق من خلال هذا الصلح، وفي هذا الصدد ينبغي عدم النظر إلى اختلاف الأديان والثقافات والهويات العرقية على أنها عائق يحول دون الصلح والتوافق، بل يجب الإشارة إلى أنه من الممكن التعايش حتى بين الذين ينتسبون إلى أديان مختلفة أو الذين لا يدينون بأي دين، وهذا هو أسلم طريق للحيلولة دون أي تصدع أو توتر محتمل بين الناس الذين ينتمون إلى مذاهب وأديان وأعراق وأحزاب مختلفة، وهو كذلك أفضل طريق لإرساء الأمن والطمأنينة داخل المجتمع.

وعلى ذلك يجب تطوير الخطط ووضع الإستراتيجيات المعقولة لتحقيق مثل هذا الصلح العام؛ لأن تحقيق ذلك ليس بالسهل اليسير كما يُظنّ، بل مرهونٌ ببذل المساعي الجبارة، وقد تُعانون كثيرًا في سبيل الوصول إلى مثل هذه النتيجة المرجوة، ولكن الحال يقتضي مع ذلك إظهار الرضا وعدم التشكي رغم ما تَجَشَّمْتم من صعوبات ومعاناة، وعلى الشاكلة نفسها لا بد من الاستعداد للتسامح والتراضي عند الضرورة، ونسيان ما وقع في الماضي من نزاعات.. وباختصار: يجب تحمل كل شيء من شأنه تعايش الناس معًا في صلح وسلام؛ بشرط ألا تُهان كرامة الأمة وشرفها.

   التغلب على المشاكل بالناضجين من الناس

ولا يُوفَّق إلى تحقيق روح الوحدة وثقافة الوفاق في المجتمع إلا الذين نضجت أرواحهم وقلوبهم وأحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم، أما من لم تنضج حياتهم الروحية والقلبية فمن الصعب عليهم أن يُحدِثوا أيَّ نوعٍ من الانبعاث مادّيًّا ومجتمعيًّا، فقد تبدو حتى المشاكل الكبيرة صغيرةً بالنسبة لمن وصلوا إلى التشبع الروحي الكامل والتكامل المعنوي والثقة والاطمئنان، فهؤلاء يسهل عليهم كثيرًا القفز من فوق الخنادق العظيمة وتجاوزها وكأنهم يقفزون فوق حفر صغيرة، أما الذين لم يتخلصوا من أنانيتهم، ولم يتخلوا عن جسمانيتهم، ولم يتغلبوا على أهوائهم ورغباتهم؛ وباختصار لم يرتقوا في مدارج حياة القلب والروح؛ فلا شيء يُرجى منهم بشأن تحقيق السعادة والطمأنينة للبشرية.

وهذا هو السبب المهم وراء النزاعات والتصدعات والامتعاضات الواقعة في أيامنا، فالذين لم يتكاملوا وينضجوا بقدر الكفاية يُبدون امتعاضهم وانزعاجهم أمام أتفه الأشياء؛ تَراهم يستاؤون على الفور -لقلة خبرتهم وعدم نضجهم- إذا لم يُقابَلوا بالمعاملة التي كانوا يرجونها، أو إذا لم يجدوا النظرة التي كانوا يأملونها، وإذا وخزهم أحد بطرف إبرة محاولًا إنعاشهم وتنبيههم وتحذيرهم يبدون رد فعل قوي وكأن حربةً انغرزت في صدورهم.

ولو قوبلوا بآلاف من الجماليات تراهم يبحثون فيها عما يعكر صفوهم ويثير الضجر في قلوبهم، ويحكمون على كل الجماليات الباقية بالعدم، وإذا وردت كلمة أو كلمتان نابيتان بالنسبة لهم في حديث استغرق ساعة كاملة تراهم يحكمون على كل ما سمعوه اعتمادًا على هاتين الكلمتين، ويتخذون موقفًا معاديًا من الحديث وكأنه كله عبارة عن هاتين الكلمتين، وهذا يوضح أن كل ما سمعوه قد تمّ تمريره على مختبرات النفس والأنانية، فتم التوصل إلى نتائج خاطئة، وكانت العاقبة هو الاستغراق في ملاحظات خاطئة.

علمًا بأن الوظيفة التي تقع على عاتق أهل الإيمان الذين وهبوا الإيمانَ والقرآنَ قلوبَهم ولجؤوا إلى ربهم خاضعين منكسرين خمس مرات في اليوم؛ هي عدم الامتعاض والاستياء من هذه المواقف والتصرفات التي تبعث عليهما، وبدلًا من اتّهام الأشخاص الذين يقومون بهذه التصرفات السيئة وإساءة الظن فيهم؛ فعليهم التوجه إلى الله تعالى قائلين: “اللهم إننا ربما تعرضنا لكل هذا بسبب عدم استطاعتنا أن نكون أهلًا للصلاح، فاللهم أصلح أحوالنا وأحوالهم”؛ لأنه من المتعذر على الشخص أن يحل مثل هذه المشاكل المعاشة في العالم اليوم وهو لا يتحلى باللطف والرقة والشهامة والصدر الرحب.

على الإنسان أن يعقد العزم على عدم الامتعاض والاستياء من أحد، فلو شُغلنا بالامتعاض والاستياء لتعطلت الأمور ولم يكتب لها الديمومة والبقاء، دع عنك الاستياء من بعض المعاملات غير اللائقة التي نتعرض لها، فما دمنا نذرنا أنفسنا لخدمة الإنسانية فلا بد أن يكون لدينا استعداد لأن نضع جباهنا تحت أقدام الآخرين، وإذا وجب ذلك فلا بد أن نتهيأ للموت في هذا السبيل، وما أجمل ما قاله الشاعر سيد نيكاري تعبيرًا عن هذا:

أَبِالنَّفْس يُفتَنُ مَن هو بالحِبِّ مُغرَمُ

أبِالحِبّ يُفتَن من هو بالنفس مُتيَّمُ

وأعتقد أن هذه هي الفكرة المناسبة لأن تستقيم الإنسانية على عودها بعد انقصام ظهرها، والأجيال التي تحمل هذه الفكرة هي التي من شأنها أن تعمّر التصدعات والانكسارات على مستوى المجتمع، وأن تكون وسيلة لأن تعيش الإنسانية في أمان واطمئنان، أما من يستاء من هذا ويمتعض من ذاك فيدمر المجتمع ويخربه بهذا الامتعاض والاستياء فلا شيء لديه يعِدُ الإنسانية بأي خير.

كما هو معلوم قام مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم قبل غزوة أحد بوضع مجموعة من الرماة فوق الجبل، وطلب منهم ألا يغادروا أماكنهم مهما كان الوضع، وشدد التنبيه عليهم في ذلك، ولكن مجموعة كبيرة منهم لم تكن قد أدركتْ بعدُ دقة الامتثال للأمر فتركت أماكنها ظنًّا منها أن المهمة قد انتهت مع فرار المشركين، بعدها مباشرة قام المشركون بمناورة جديدة والتفوا حول الجبل، وأحدثوا في جيش المسلمين جرحًا بالغًا، حتى إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شُجّ رأسه الشريف وكُسرت رباعيته، ولكن مع ذلك كله جمع صلى الله عليه وسلم أصحابه مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن، واستشارهم، ولم يواجههم بأخطائهم أو يعاتبهم أدنى عتاب.. فما أجمله من تصرف! وما أحلاها من نسمة تشي بالاحترام والتقدير!

من يدري كم تحطم هؤلاء وانسحقوا بسبب خطئهم في الاجتهاد! فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفف عن قلوبهم المحترقة؛ لما رأى منهم وعيًا بخطئهم وانسحاقًا تحت وطأة ذنبهم، فجمعهم ليستشيرهم في الخطوات الجديدة التي لا بد من اتخاذها لمواجهة الموقف؛ وهذه هي الوسيلة لإثارة البطولة في الأرواح، ورأْبِ الصدع والانكسار الواقع في الميدان.

   صلح الحديبية

وفي هذا السياق يخطر ببال الكثيرين منا صلح الحديبية؛ لأن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم قدَّمَ لإبرام هذا الصلح مع القرشيين تنازلات متتابعة، ورغم أن هذا الصلح كان مُجحفًا في بعض مواده فقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في سبيل إبرام الاتفاق وتهيئة الأجواء للصلح والسلام.

كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وعد أصحابه عند خروجهم من المدينة بزيارة الكعبة وأداء العمرة، وقطعوا جميعًا مسافة تزيد على أربعمائة كيلومتر بواسطة الخيل والبعير من أجل تنفيذ هذا الوعد، وفي النهاية وصلوا بالقرب من مكة، وأحرموا للعمرة، وساقوا معهم الهدي، فتصدى مشركو مكة للمسلمين في الحديبية، ولم يأذنوا لهم بدخول مكة أو الطواف حول الكعبة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم استطاع بمساعيه الحثيثة وفطنته العالية إقناعَ المشركين بعقد صلح الحديبية، لكنهم اشترطوا من أجل إبرام هذا الصلح رجوع المسلمين هذه السنة دون أداء العمرة، فكانت هذه المادة شديدة الوطأة على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم الذين كانوا يتحرّقون شوقًا لدخول مكة والطواف حول الكعبة بعد فراق دام ثمانية أعوام، ورغم أن بعضهم ذكَّر النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد الذي قطعه لهم، ونبههم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يقل لهم “هذه السنة”، فقد أخذوا منه عهدًا على أن يكون ذلك في العام المقبل إن شاء الله، ولكن ليس من الصعب التنبؤ بمدى صعوبة كل هذا وتأثيره على مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم!

أخذ خالد بن الوليد الذي لم تكن عيناه قد انفتحتا بعدُ على الحقيقة آنذاك يجول بفرسه ذات اليمين وذات الشمال، وكأنه يتحدى المسلمين بصنيعه هذا، ويدعوهم إلى مجابهته.. من جانب آخر اعترض سهيلُ بن عمرو -ممثّلُ جانب قريش في صلح الحديبية- على كتابة عبارة “رسول الله”، واشترط كتابة “محمد بن عبد الله” بدلًا منها، وكان أبو جندل بن سهيلٍ هذا قد جاء إلى الحديبية زاحفًا غارقًا في دمه بعد أن استطاع فكَّ أغلاله والهروب من محبسه، وارتمى في أحضان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن أباه سهيلًا طلب ردَّ ولدِه إليه بموجب هذا الصلح، فاضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبول طلبه مرغمًا حتى لا يُفسِد صلحه مع المشركين.

لم يكن من اليسير استساغة كل هذه الأمور، وخصوصًا بالنسبة لمفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم صاحب الشرف الرفيع والعزة والكرامة العالية؛ لأن القامات العظيمة تتمتع بحساسية مفرطة لا سبيل إلى تخمينها، يقول ربنا سبحانه وتعالى تعبيرًا عن هذه الحساسية العالية لدى نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/3)، ومع ذلك كلّه فقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم تقبّل كل هذا متوخّيًا الحيطة والحذر الشديدين.

إن النبي صلى الله عليه وسلم هو نبيٌّ عظيم الشأن؛ اصطفت وراءه الملائكة، وتراجع جبريل عنه قدر خطوتين ووقف وراءه مطأطئًا، وتوسّل به آدم عليه السلام إلى ربه أن يغفر له، وتطلب الأمة المحمدية الشفاعة منه كل يوم، ولذلك عندما نتحدّث عنه لا بد من النظر إليه صلى الله عليه وسلم بهذه الجاهزية، وهذه الشخصية الفريدة، وهذه الحال النورانية المشرقة، ثم بعد ذلك انظروا إلى الوقاحة والغطرسة التي أبداها إزاءه صلى الله عليه وسلم حفنةٌ من عباد الأصنام الذين ما زالوا على الشرك آنذاك، وحاولوا أن تفهموا كيف تحمَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا دون أن تأخذه العزة بنفسه، فلا ريب أنكم حينها ستدركون أنه صلى الله عليه وسلم كان يحاول حل المشاكل غير آبهٍ بهذه التصرفات المستفزّة التي تبعث على الاستياء والامتعاض، وكان يسعى إلى فتح القلوب، وتهيئة جوٍّ جديد للصلح.

فالنظر بشمولية إلى الحوادث يعني إلى حد ما القراءة الحسنة والرؤية السليمة للجماليات التي يَعِدُ بها الصلح والتسامح في المستقبل، إن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بفعله هذا كان يرشد المسلمين إلى التخلي عن العناد في مسائل معينة، وإلى عدم مخالطة الأنانية أعمالهم، وإلى تجنب التأويلات السطحية المؤقتة، والتحلي ببعد النظر، وتحاشي إغضاب الناس وكسر خاطرهم، والنأي عن إثارة المشاكل المستقبلية باستخدام العنف والشدة، فهذا هو السبيل للحيلولة دون الوقوع في فخاخ المشاكل والغوائل المتداخلة.

   نحن نعدّ الفتح صلح الحديبية

أجل، لقد جرى صلح الحديبية في ظل ظروف قاسية، جُرحت فيها عزةُ المسلمين، لكن القرآن الكريم بشّر بأن هذا الصلح فتحٌ مبين، وهذا ما أثبتته نتائج الصلح فعليًّا، فضلًا عن ذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون فيما بعد: “إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية”؛ لأن المسلمين بعد هذا الصلح استطاعوا التجوال بأريحية في شبه الجزيرة العربية، والتعبير عن أنفسهم، وخلال هذه الفترة التي توقفت فيها الضغائن والأحقاد والعداوات تعرّف الكثيرون على الإسلام عن قرب، ودخل دهاة السياسة والعسكرية أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في الإسلام، وكما عبر القرآن الكريم دخل الناس في دين الله أفواجًا.

انطلاقًا من هذا الإجراء يمكن القول: إذا كان مسلمو اليوم يرغبون في تهيئة مثل هذا الجو من الصلح والوفاق داخل الدولة وخارجها فعليهم أن يتكبدوا التضحيات الجسام، أما إذا لم يتحملوا بعض المواقف النابية التي قد لا تناسبهم، وقدموا كرامتهم وغرورهم على الدوام؛ فسيظلون محرومين من الخيرات التي قد يأتي بها الصلح يومًا ما.

فعند النظر إلى الظروف الراهنة تتبدى الإنسانية في أمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مثل هذا الوفاق والاتفاق؛ لأن حلَّ كثيرٍ من المشاكل المتفشّية الآن، وتخلّصَ الدول من التمزق والشتات، وضمان سلامة الطريق مرهونٌ بذلك، ولهذا فثمة حاجة ملحّة إلى الفهم والتطبيق الحسن للمنطق والمحاكمة العقلية اللذين قام عليهما صلح الحديبية.

 فإذا كانت الدولة العليّة العثمانية استطاعت إدارة الكثير من الأمم المختلفة على مدى عصور طويلة، فما نجحت في ذلك إلا بالوفاق والاتفاق، فبدونهما كان من المستحيل إدارة بنية كهذه سنوات طويلة دون مشاكل وعراقيل، والسبب الرئيس في المشاكل التي وقعت في القرون الأخيرة من عهدها يكمن في عدم استطاعتها تفعيل فلسفة الصلح وفكرته بشكل كامل، فلقد ثارت المشاكل عندما حُرِمَ الناس من الحريّة في قضاء حياتهم وفقًا لأنماط فكرهم الخاص، وعندما شرعت الدولة تفرض عليهم بعض القضايا أخذوا يبحثون في الخارج عن الدعم الذي فقدوه، وفي النهاية اندثرت هذه الدولة العلية العملاقة وأصبحت في طيات التاريخ.

 ***

[1] “في الجبرية والمعتزلة حبة من حقيقة، يا طالب الحقيقة! إن الشريعة تنظر إلى الماضي وإلى المصيبة غير نظرتها إلى المستقبل وإلى المعصية، إذ تنظر إلى الماضي وإلى المصائب بنظر القدر الإلهي، فالقول هنا للجبرية.. أما المستقبل والمعاصي فتنظر إليهما بنظر التكليف الإلهي، فالقول هنا للمعتزلة، وهكذا تتصالح الجبرية والمعتزلة، ففي هذه المذاهب الباطلة تندرج حبة من حقيقة، لها محلها الخاص بها، وينشأ الباطل من تعميمها”. (بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، اللوامع، ص 833)