عِفّة الفكر

عِفّة الفكر
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

السؤال: ثمة مصطلحات تذكرونها أحيانًا مثل “عفة الفكر” أو “شرف الفكر”، فهلّا تفضلتم بإيضاح المراد بهذين المصطلحين؟

الجواب: يُعد الفكر والحركة من أهم المقومات التي تدلّنا على سبيل الوجود الحقيقي، وتحفظ ذاتيتنا من العواصف العاتية، وتمكّننا من تجديد ذاتيتنا. وإن كان الفكر بالمعنى الإجمالي يتقدم على الحركة فإنه بالمعنى التفصيلي ينمو داخل الحركة؛ بمعنى أنه لو ركز الإنسان في موضوع معين وأعمل فكره وعقله فيه واجتهد في قراءته بشكل صحيح فإن استيعاب الموضوع وتقبُّلَه لا يتأتى إلا بعد تطبيق هذه الأفكار والشروع في معايشتها؛ لأنه إذا ما شرع الإنسان في تطبيق أفكاره يُضطر إلى انفتاحات جديدة، وهذا يسوقه إلى أفكار أكثر عمقًا، وبهذا تستقر الأفكار –التي كانت أفكارًا إجمالية في البداية- على أرضية رصينة. فإن أهم مبدأ لا بد من الحرص عليه في جميع أفكارنا ونوايانا التي تحتضن الحركة، هو عِفّة الفكر، سواء أكان الفكر إجماليًّا أم تفصيليًّا. ومن ثم علينا أن نعتبر الولاء لعفة الفكر من مقتضيات شخصياتنا، وأن نحافظ عليها حفاظنا على أعيننا مهما كانت الظروف والعوامل.

الأفكار السليمة تولّد تصرفات سليمة

قد يعاملنا بعض الناس بشكل مختلف، لكن لا بد ألا يسوقنا خطأ الغير إلى خطأ آخر البتة.

أجل، يجب علينا أن نلتزم بموقفنا إزاء قيمنا الأساسية مهما كانت الظروف والعوامل؛ وإلا فإن حدث انحراف في أفكارنا وسلوكنا ردًّا على تصرفات هذا أو ذاك، فلا ريب أن هذا الانحراف تعقبه سلسلة من الانحرافات، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى أن نحيد عن الصراط المستقيم. بيد أنه ينبغي لنا ألا نفسح المجال للآخرين حتى يشغلوا أذهاننا بَلْهَ أن يُلجئونا إلى طريق الانحراف. ويجب علينا -للحفاظ على عالمنا الفكري ومنهجنا الفكري وشلّالنا الفكري- أن ننأى بأنفسنا عن أي تأثير مستفزّ؛ لأن الهدف الأساس لهذه الاستفزازات هو الحيلولة دون وصول الساعين في طريق الخير إلى غايتهم المثلى، ومحاولة توجيههم إلى وجهة أخرى. وبتعبير آخر فإن المقصد الرئيس من الاستفزازات هو منع الناس من السير صوب الهدف والعدول بهم إلى وجهة أخرى.

وعلى ذلك، ينبغي ألا تؤثر الافتراءات فيمن يمثلون الفكر السليم، – لا جرم أن لهم حق الرد على هذه الافتراءات بالتوضيح أو التصحيح أو التفنيد بل وطلب التعويض- بل عليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم في المحافظة على عفّتهم وشرفهم على الدوام. أجل، لا بد أن نفكر دائمًا باستقامة حتى تستقيم الأفعال والتصرفات التي ستُبنى على هذا الفكرِ النظريِّ. وإلا فإن انجررنا وراء كل عاصفة تهبّ علينا وانطرحنا جانبًا، فقدنا السبيل الذي كنا نسير فيه، وسلكنا دروبًا وعرة، وضللنا الطريق في النهاية.

مَن حسُنتْ فِكرتُه استمتع بحياته

يقول النبي صلى الله عليه وسلم “أفلح من كان سكوته تفكرًا، ونظره اعتبارًا” (الديلمي: المسند، 1/421). مراعاةً لهذا البيان النوراني يمكننا القول إن الإنسان يُؤْجر على حُسن الفكرة كما يؤجر على العبادات. وإن كان الانشغال بالأفكار التي لا سبيل إلى تحقيقها يعني إهدار طاقتنا، فإن الإنسان لو تمنى خيالًا أن لو كانت لديه المقدرة على تغيير صورة هذا العالم ووضعه في شكل أبهى وأكثر حيوية، فإنني أعتقد أن تصورات هذا الإنسان وخيالاته تتحلى بلون العبادة وصورتها. إن الوظيفة التي تقع على عاتق المؤمن هي الانشغال بالأمور الحسنة على الدوام، والسعي في إطار هذه الأفكار الحسنة. يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي – طيّبَ الله ثراه – في كتابه “المكتوبات”: “مَنْ حسُنت رؤيته حَسُنتْ رَوِيّتُه، ومن حسُنت رويّته استمتع بحياته”. بمعنى أن تحويل الإنسان حياته إلى نغمة لذة وأن يعيش وكأنه يسير في أروقة الجنة مرهونٌ بحسن فكرته.

علاوة على أن الإنسان لديه استعداد فطري للتفكير؛ إن لم يوجّه استعداده هذا إلى طريق إيجابي، فربما يجرّه هذا الاستعداد إلى سبل سلبية كالأنانية والبوهيمية. دع عنك التفكر، حتى إن التصورات والتخيلات التي لا تُستخدم في الخير ربما تضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع هذه النوعية من السلبيات. ولذلك فإنه ينبغي على المؤمن أن يتحرك دائمًا بالقيم التي يؤمن بها، وأن يحفِل بها، ويقرأ ويفكر دائمًا، وعليه أن ينهل ويتغذى من المصادر الأساسية باستمرار دون أن يسمح لأي فراغ أن يحدث في حياته. كما ينبغي عليه أن يعطي إرادته حقها فينأى مبتعدًا عن المشاعر والأفكار التي لا تسمح بها آلية الوجدان. فإن تعرض للرياح السلبية رغم كل جهوده، فعليه في هذه الحالة -كما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يحاول التخلص من هذا المناخ. لأن مَن أبحر في الخيالات التي تخلّ بعفة الفكر يصل إلى نقطة يبدو فيها كمن أبحر بعيدًا جدًّا عن الشاطئ، بحيث لا يستطيع أن يعثر من جديد على فرصة الرجوع عن السلبيات التي غاص فيها. أجل، إن الإنسان إن عجز عن قطع السبيل أمام الحقد، والكره، والغيظ، والشهوة البادية في داخله، فمن الممكن أن هذه الأمور تحطّم السدود وتستصدرُ الإنسانَ قرارات منحرفة وتجعله يرتكب أعمالًا سيئة.

على الإنسان أن يعطي إرادته حقها في هذا الموضوع من جانب، وأن يطلب الحماية من الله تعالى من الجانب الآخر. فإن استطاع فعل هذا فسوف يعيش حياته -بعون الله تعالى- في دائرة الحماية والوقاية. غير أنه ينبغي ألا يُنسى أن أكثر الناس استقامة ربما ينقلبون على عقبهم، ومن ثمّ فلا بد من الانتباه والحذر الدائم. أما ما يلزم القيام به حين نهتز ونوشك أن نسقط فهو أن نصحح وضعنا، ونتوجه إلى الله تعالى من جديد قائلين: “رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (سورة الأعراف، الآية 23) كما فعل جَدُّنا آدم (عليه السلام).

الأهواء والرغبات المتنكرة في صورة الفكر

ومن الأمور اللازم الانتباه إليها من أجل عفة الفكر هو احتمال أن تتنكر الأهواء والرغبات في صورة الفكر، وتُبعد الإنسانَ عن الطريق القويم. وفي هذه الحالة فإن المعايير الشرعية هي المقياس في تحديد ما هو هوىً ورغبةٌ وما هو فكرٌ. فمثلًا إذا ما ثُرْتَ على إنسان حين تصدُر عنه تصرفات وأقوال تحزنك وتؤذيك، فإنه ينبغي عليك  أن تنظر أولًا هل تضرر الحق والحقيقة منه أم لا؟ فإن لم يكن ثمة ضرر فهذا يعني أنك تثور وتنفعل من أجل نفسك أنت، وهو ما يعني أن رد الفعل الذي وقع إنما مصدره الهوى. أما المعيار الذي وضعه القرآن الكريم عند التعرض للأذى فهو: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (سورة فصلت، الآية 34) ووفقا لهذا المعيار فإن المعاملة التي تكون في مواجهة إنسان آذاكم لا بد وأن تكون محاولة كسر شدة غضبه وانفعاله بواسطة الابتسام والوجه السمح. أما إن كانت تلك الإساءة أذى يلحق بالمقدسات وحقوق العامة فإنه ليس من حق الإنسان العفو عنها. لأن للإنسان أن يتسامح ويتنازل عن الحقوق الخاصة به هو فحسب. والله تعالى لم يُوكل أحدًا غيرَه في موضوع العفو في الحقوق الخاصة به تعالى. ولذلك فإنه ليس لأحد -أيًّا كان- أن يهم إلى النيابة في الحقوق المتعلقة بالله تعالى. وإن حدث خلاف ذلك فإنه إساءة أدب تجاه حقوق الله.

وإن عدنا إلى موضوعنا الأصلي قلنا: نعم، إن الأهواء والرغبات قد تتنكر في صورة الفكر، -وبدافع من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء- يظنها الإنسان فكرًا، وربما يرتكب أخطاءً تحت تأثيرها. ويمكنكم أن تشاهدوا هذا في بعض المناقشات الفضائية التي ينتقد الناس فيها بعضهم بعضًا دون هوادة. فهم دائمًا ما يقولون عكس ما يقوله الطرف الآخر، سواء أكان ما يقوله صحيحا أم خطأ، وكأنهم انقطعوا للمعارضة فحسب. حتى إنه لو قال مناظره -وهذا فرض محال- “يمكنني أن أدخلكم الجنة الآن بإذن الله وعنايته”، وانفتحت أبواب الجنة على مصاريعها أمامهم بإشارة من ذلك الشخص، ورأوا بأنفسهم الجمال الموجود في الجنة بكل جاذبيته، فلربما يقولون: “كلا، إننا لا نريد دخول هذه الجنة، ينبغي أن نسعى في الدنيا أكثر، أنت تدلّنا على الكسل والعطالة!” أي إنهم يحاولون الرد مسفسطين حتى في مواجهة الأقوال والأفكار الأكثر منطقية وقبولًا. وهكذا فإن هذه النوعية من الألفاظ دافِعُها الشيطان ومصدرها الهوى. غير أن الإنسان يحسب واهمًا أنه هو الذي فكّر وتخيل كل هذه الأمور.

وقد يسقط بعض المؤمنين في فخ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء هذا، فمثلا ربما يُغلِّف هذا الشخصُ إن ذُكّر بالموت، رغباتِه وأهواءه مثل حب الحياة، وحب الأولاد والعيال، والتلذذ بالدنيا، -يُغلّفها- بغلاف الخدمة، ويقول بدافع من الهوى: “ينبغي أن أبقى هنا وأن أبلّغ الحق والحقيقة لكثير وكثير من الناس.” في حين أنه ينبغي على مؤمن صادق أن يحزن بسبب ما يشعر به من شوق لربه، وأن يكون حافلًا بالرغبة في لقاء سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويرغب في الجلوس على نفس المائدة التي يجلس عليها كل من سادتنا أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (رضي الله عنهم) ويشاركهم المناخ والجو العام نفسه، غير أنه لا بد أن يتصرف بحيطة ويقول: “ربِّ إنني أخاف أن أسيء الأدب تجاهك متعجلا، لأني لا أعرف هل آن وقتي أو لا”. والوجدان حَكَمٌ مهم للغاية في هذه النقطة. ولذلك ينبغي على الإنسان أن يُخضع ما يصدر عن فِيه لاختبار وجدانه إخضاعًا مطلقًا، وعليه أن يرجع إلى معاييره الصحيحة في كل اختياراته وقراراته. فإن استطاع فعل ذلك فإنه يكون قد اتقى الخلط بين الهوى والهدى، والمنطقية والعقلانية بالرغبات والأهواء.