الجَرَّة المشروخة: سبيل النجاة من الضلال والخسران

الجَرَّة المشروخة: سبيل النجاة من الضلال والخسران
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

   سؤال: يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (سورة الْكَهْفِ: 18/103-104)، ورغم ما يبدو لنا من أننا محاطون بدائرة صالحة؛ فما الأمور التي ينبغي علينا الانتباه إليها في حياتنا الدينية وخدمتنا الإيمانية، حتى لا نكون من “الأخسرين أعمالًا”؟

   الجواب: بادئ ذي بدء دعونا نتوقف قليلًا مع الآية القرآنية الكريمة التي ذكرتموها، فالآية تبدأ بلفظ “قل” وفي هذا إشارة إلى أن المقصود بالآية هو من عاند وأصر على الضلال فبقي بعيدًا عن الموضع الذي ينبغي أن يكون فيه.

ثم تقول الآية الكريمة “هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا”.. فكلمةُ “أَعْمَالًا” هنا جاءت بصيغة الجمع لتشمل جميع أشكال الطاعات من عبادات ومعاملات وأخلاق وكل الأعمال من حركات وسكنات وأطوار مختلفة، وهذا يذكرنا بما جاء في الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم “اَلْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً” (رواه الشيخان)، ويمكننا أن نقول إن كلمة “أعمالًا” في الآية الكريمة تستوعب كل شعب الإيمان.

أما قوله تعالى “بِالأَخْسَرِينَ” فكما هو معروف من قواعد اللغة العربية جاءت الكلمة هنا بصيغة “اسم التفضيل” ولذلك فهي تعني “أكثر المتضررين، والذين يعيشون حالة تامة من الضياع، أو هؤلاء الذين كل أعمالهم تسوقهم إلى الخسران حتى كأنهم اتخذوا عرشًا لهم في قلب وادي الخسران”.

تقول الآية الكريمة بعد ذلك “الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا” فهؤلاء ضاعت كل أعمالهم واجتهاداتهم، واستحالت هباءً منثورًا، هذا ما تفيدُه الآية لتضيف بعد ذلك “وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”.

والمعاني الواردة في الآيتين الكريمتين تفيد معاني مختلفة ومتفاوتة، كلٌّ حسب درجته وموضعه؛ فبالنسبة لأهل الشرك والكفر فإنّ هاتين الآيتين تتناولهما على النحو التالي: إنهم يعتقدون أنهم يعملون من أجل تحقيق الرفاهية الدنيوية ويقومون بمختلف الفاعليات والأنشطة، وكذلك وفقًا لتصوّرهم فإنهم يعملون على مساعدة الناس وتسهيل حياتهم وإعطائهم الإمكانات اللازمة لذلك، ولكنهم أثناء فعلهم ذلك يهملون أمورًا في غاية الأهمية ويغفلون عن الأساسيات الضرورية من إيمان بالله عز وجل، وتنفيذ ما أمر به الدين الإسلامي من أوامر، ونشر وترسيخ الأخلاق العالية بين الناس، واحتضان كل الناس بل كل الموجودات بالشفقة والرحمة.

فهم يغفلون عن كل هذه الأمور المهمّة وينكبّون على الأمور الدنيوية المادية ويكتفون بها، ليس هذا فحسب بل إنهم يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنهم يقومون بأمور عظيمة ومهمّة، بينما هم في الحقيقة في ضلال وخسران كبير لعدم امتثالهم لأوامر الله ونواهيه، وعدم تمثيلهم لما وضعه الإسلام من جماليات، وهم لا يخدعون إلا أنفسهم باعتقادهم بأن ما يقومون به من أعمال هي من قبيل الأمور الجليلة، وذلك لأن كل ما يقومون به لن يجلب لهم أية فائدة أخروية.

ومن ناحية أخرى فإن هذه الآية القرآنية الجليلة تتوجه بالخطاب لأولئك المؤمنين المذنبين الذين لا يستطيعون التجرد أبدًا من الذنوب والآثام ويقضون حياتهم في تخبّط دائم، فمثل هؤلاء يكتفون بعبوديتهم لله سبحانه وتعالى بصلاة الجمعة من كل أسبوع، اعتقادًا منهم أن هذا وحده كاف لنجاتهم، بالطبع لا يمكن التقليل من شأن أي عمل يتم في سبيل الله، فمثلًا إن كان هناك إنسان على قارعة الطريق وجاء أحدهم بعربته فأقلّه إلى حيث يريد، فقد يكون هذا العمل ذو قيمة كبيرة عند الحقّ جل وعلا، فما بالنا بأداء شعيرة من شعائر الإسلام كصلاة الجمعة! لا يحق لأحد أن يستصغر قيمتها على الإطلاق، لكن إن كان الشخص يربط تقييمه للنجاة الأخروية بمعاييره غير المنضبطة، ويغض الطرف عامدًا عمّا وضعه الله سبحانه وتعالى من معايير فهو مغبون ويخدع نفسه، ولذلك فكما أن الكافر يقيم عرشًا لنفسه في قلب وادي الخسران، فمن المحتمل أن مثل هذا الشخص يقيم لنفسه عرشًا في وادي الضلالة.

وإذا عدنا للسؤال، فبالطبع هذه الآية تتوجه أيضًا بخطابها لمن نذرو قلوبهم للخدمة وغايتهم العليا هي إعلاء كلمة الله جل وعلا، فلو أنهم لم يتمسكوا بأصول الدين ولم يتخذوا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مرشدين لهم في الطريق، ونسو هدفهم ومقصدهم الأصلي، فبدون أن يشعروا سينحرفون عن الطريق ويمكن أن يعيشوا مثل هذا الخسران، فمثلًا يقوم هؤلاء بفتح بيوت ومراكز ثقافية، ومراكز للحوار، أو مدارس تعليمية أو أنهم هاجروا من ديارهم وأوطانهم وتوطنوا في بلاد جديدة من أجل تحقيق معنى الجهاد في صورته الأصلية المتمثلة في إعلاء كلمة الله، والغاية من هذا النوع من الخدمات هو ترسيخ اللبنة الأولى في سبيل شرح الحق والحقيقة للناس، وتذليل الصعاب أمام القلوب للوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وتأمين محبة الله عند الخلق، وكنتيجة تأمين رضا الله عليهم وحبه لهم؛ فما يتم تحت اسم الخدمة من فاعليات وما يتم إنشاؤه من مؤسّسات تعد وسائل مهمّة لتحقيق هذا المعنى من الجهاد، وهكذا فالمسألة الأصلية هنا هي استخدام هذه الوسائل والوسائط الاستخدام الأمثل لتحقيق هذا المقصد.

وفي حالة تجاهلنا هذه الحقيقة ونسيانها، وشروعنا في الحديث عن أنفسنا عبر الأنشطة والمشاريع المقامة باسم الخدمة، والرغبة في نيل التقدير والثناء، والتطلع لأن يُشار إلينا بالبنان، وأن نرهن نجاحاتنا بالتقدير والتبجيل فعندها نخسر نحن أيضًا -حفظنا الله- الدنيا والعقبى، ونُهدر جميع الخدمات التي فعلناها دون أن نشعر ألبتة.

أما السبيل إلى الثبات على الاستقامة في هذا الأمر فهو: قد يستعملكم الله تعالى في أمور مهمة للغاية، وربما تحققون نجاحات أبلغ من أسلافكم، لكنه حتى إزاء نجاح كهذا يجب القول: “ربما لو كان هناك آخرون مكاننا لبلغوا بهذه الأعمال إلى ما هو أبعد، فماذا عسانا أن نفعل وهذه هي قدرتنا وطاقتنا! نسأل الله أن يعفو  عنا؛ لقيامنا بالعمل مكان أناس أكفأ وأفضل منا، وعجزَنا عن رسم البسمة على وجه الإنسانية كلها”.

ولكن إذا ما أُهمِلَت هذه الملاحظات، وطُلب في هذه الدنيا الحصول على التصفيق والتقدير مكافأة على ما أُنجز، وتم الاستسلام للكبر والغرور إزاء ما تحقق من نجاحات عندئذ تتحقق الخسارة بينما يُرجى الفوز والفلاح، ولا سيما أن الانخراط في تصرفات وحركات من قبيل استغلال المناصب والمواقع لصالح المصالح الشخصية، وإقامة دواليب المصلحة من خلالها، واستخدام رصيد المحبة والمكانة عند الله في سبيل تحقيق الثراء، والانكباب وراء الرغبة في العيش مثل الملوك باستغلال الإمكانيات المتاحة، واللهث لامتلاك السيارات الفارهة والقصور الفاخرة، وهو ما يمكن اعتباره ضلالًا وخسرانًا تامًّا، وهذه صفاتُ غير المؤمنين -حفظنا الله- ففي هذه الحالة قد يدخل المرء تحت إطار “الأخسرين أعمالًا”.

بالطريقة نفسها، ينطلق بعضهم بأفكار ونوايا جيدة مثل حماية الوحدة الروحية، وتوفير النظام والانتظام، ومضاعفة الخدمات، ويعتقدون أنهم يقومون بأعمال جيدة لتحقيق هذه الأفكار.. غير أنهم يتخبطون يمنة ويسرةً خبطَ عشواء ولا يتركون قلبًا إلا وقد آلموه وكسروه بسلوكهم الفظ الغليظ، ولا يمنحون أحدًا الفرصة للحديث عن خطئهم؛ لأنهم لا يستطيعون تحمل ذلك، وحتى وإن حسِبوا أنهم بطريقتهم هذه يفعلون خيرًا للأمة، فقد أسسوا بنيانهم على الخسران لأنهم اتصفوا بصفات الكافرين.

يا له من خسران أن تضيع هباءً كلُّ أعمال شخص يعتقد أنه يقوم بأعمال طيبة في هذا العالم، وأنه يصب ثواب هذه الأعمال الصالحة في حوض فيرسله إلى الآخرة ليحصل على ثوابه يوم القيامة، ثمّ يرحل إلى الآخرة مفلسًا من الحسنات؛ لأنه أدخل الرياء والسمعة في أعماله، وأسّس بكل هؤلاء عالمًا من المصالح في الدنيا!

والطريق إلى تجنب كل هذه الأخطار والبعد عنها هو الإخلاص في جميع الأعمال، وإذا كان الناس يثقون بكم، ويدعمونكم بإمكانياتهم، وتقومون ببعض الأنشطة منفتحين على جميع أنحاء العالم فيجب عليكم القيام بكل هذه الأعمال لوجه الله تعالى فقط، وينبغي ألا تخلطوها بأية حسابات دنيوية..

بالطبع سوف تنشئون المدارس والجامعات ومراكز التعليم والمراكز الثقافية ومراكز الحوار، ولكنكم ستستخدمونها في سبيل غايتكم المثالية فحسب، ولا شيء غير ذلك، ومن خلالها تشاركون الآخرين مشاعركم وأفكاركم، وعبر الاستفادة من هذه الوسائل واستثمارها تُفيضون إلهامات قلوبكم في صدور الآخرين، وتضمنون أن يطلع الآخرون ويتعرفوا على قيمكم الخاصة، وستأخذون في الوقت نفسه ما يمكنكم الحصول عليه من محاسن لدى الآخرين وتستفيدون منها من أجل تطوركم، هذه هي واجباتكم، لكنه وبما أن روح الأفعال هي الإخلاص والصدق، فلن تتطلعوا إلى أية منفعة مادية ولا معنوية في أثناء القيام بذلك، سوف تتصرفون باستغناء كامل وشعور تامٍّ بالتضحية والتفاني.

وزبدة القول إنه يجب على من يُكرسون أنفسهم لخدمة الإنسانية -مهما كان المجال الذي يخدمون فيه- أن يتبعوا طريق الأنبياء العظام، وألا يتشوفوا ولو حتى لقدر ضئيل من المكافأة على خدماتهم، حتى وإن افتُرض أنهم اقتلعوا الجبال من جذورها، وغيروا مدار الكرة الأرضية، ومنحوا النظام الشمسي شكلًا مختلفًا، فإن هذه الخدمات ستضيع جميعًا ولن تحقق من ورائها أية فائدة إذا كانوا يتشوفون إلى مكافآت مادية وروحية مقابلها، هذا هو أساس طريقنا، فإذا كان هناك من يميلون إلى الخروج عن هذا الإطار فعليهم مراجعة أنفسهم مرة أخرى، وإلا فقد يخسرون حيث يظنون أنهم يربحون.