الشورى المثالية -1

الشورى المثالية -1
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

 

سؤال: ما هي أصول وآداب الشورى في الإسلام؟

الجواب: لقد بيّن القرآن الكريم بشكلٍ صريحٍ وواضحٍ لا يحتاج إلى تفسيرٍ أو تأويل أن الشورى وصف ملازم لجميع المسلمين، وأمرَ القلوب المؤمنة بتطبيق هذا المبدأ الذي لا غنًى عنه في كلّ نواحي الحياة. فمثلًا يقول تعالى في سورة الشورى:

﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (سُورَةُ الشُّورَى: 38/42).

واقترانُ الشورى بالصلاة والإنفاق في هذه الآية يدلّ على أهمّيّة الشورى في المجتمع المؤمن وأنها عملٌ يعادل العبادة، كما أن إطلاق اسم “الشورى” على هذه السورة لكونها تتضمّن نصًّا يتعلّق بها له مغزًى عميق.

وفي آية أخرى يأتي الأمر بالشورى صراحة، قال تعالى:

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 159/3).

الشورى.. حتى في لحظات الغضب والانكسار

ولا يعزب عن علمكم أن هذه الآية الكريمة قد شرّفت بنزولها في أحلك اللحظات؛ إذ إن نزولها كان بعد تزعزُع مؤقّتٍ تعرّض له المسلمون خلال غزوة أُحُد وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استشار أصحابه فيما يتعلق بالخروج إلى الغزوة، ثم قرر الخروج نزولًا على رأي أصحابه، لكن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين قد وقعوا -عن غير قصدٍ- في مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال المعركة؛ لعدم استيعابهم بعدُ الدقّةَ في امتثال الأمر النبويّ استيعابًا كاملًا، فتعرّضوا حينذاك لهزّةٍ مؤقّتةٍ -أقول هزّة حتى أتجنّب التعبير بكلمة الهزيمة-، وجُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسال الدم المبارك من وجهه الشريف، واستُشهد الكثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وفي هذا الموقف المتأزِّم تنزل هذه الآية الكريمة التي يستهلّها ربُّنا تبارك وتعالى بملاطفة حبيبه صلى الله عليه وسلم فيقول:

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 159/3).

ويمكننا أن نوضّح المعنى المراد من هذه الآية الكريمة فنقول: أيّها الحبيب المتأدّب بأدب ربّه، لستَ -قطّ- فظًّا غليظًا حادَّ الطباع، إذ لو كُنتَ كذلك لَمَا التفّ هؤلاء الناس حولك وما خرجوا معك إلى ساحة المعركة، ولَانفَضُّوا مِن حولك، أيها الحبيب المتأدِّبُ بأدب ربِّه، إن كان قد وقع منهم خطأٌ في الاجتهاد ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ أي لا تتوانَ في أمر الشورى فشاوِر مَن حولك من الناس مرة أخرى.

أجل، لقد أحدَثَتْ هذه الهزّة النسبيّة اختلالًا واضطرابًا في كلّ شيءٍ، وانفطر القلب النبويّ فهو لا يخرج عن كونه بشرًا، وفي هذه الأثناء التي جُرحت فيها مشاعر الكثيرين من الصحابة رضي الله عنهم تنزل هذه الآيةُ اللطيفة التي تأمر بالتشاور بالأمر من جديدٍ، والحال أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في حاجةٍ إلى التشاور، فقد كان صلوات ربّي وسلامه عليه -كما ذكر سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه- دائمَ الاتّصال بالسماء صباحَ مساء، وقد أطلعه ربُّه على ما سيقول وما سيُقدم عليه من خطوات وما سينجزه من أعمال، ولم تُعرقل دعوةَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقبةٌ ما، فإذا ما واجهتهُ عقبةٌ؛ مهّد الله له السبل وأفسح له الطرق وقال له: “سِرْ، فالطريق طريقُك والزمان زمانُك”، لكن الرسول الهادي الأكمل -ليس في زمانه فقط بل في كلّ الأزمنة- كان يشاور أصحابه ليوجِّه أمته المكلّفة باتباعه قائلًا بلسان الحال: “كونوا كما تكونون؛ رؤساء، أو ولاة، أو إداريين، ولكن لا تختزلوا الأمر في وجهة نظركم، واستشيروا غيركم ولا تُخضعوا الأحكام التي تصدرونها لأهوائكم الشخصية”.

الشورى تضمن شراكة الجميع في الأمر

الشورى مسألةٌ مهمّةٌ جدًّا في الفعاليات والقرارات المتعلّقة بالجميع، حتى يصبح الأمرُ أمرَ الجميع، فإن أسهم الإنسان برأيه في أمرٍ ما، وإن كان رأيًا عاديًا اعتبر نفسَه جزءًا من هذا الأمر، وحمل على عاتقه إنجازه وإن كان ثقيلًا، لكن إن لم يؤخَذ رأيُه واقتراحاته ولم يساهم بعقله وفكره في الأمر؛ فإنه سينأى بنفسه عن التدخُّل فيه وسينفض يديه عنه، فالواجب إذًا العملُ على أن يستوعب الناسُ أن القيام بالأمور المهمة يشبه حَملَ كنزٍ كبير، والحرصُ على مشاركة الآخرين في الأمر حتى تتكاتف الأيادي وتتضافر الجهود ويخفّ هذا العبء الثقيل، ومن ثمّ فيمكننا القول إذا أُهملَ مبدأُ الشورى في الأسرة ساد التوتر والاضطراب في أرجاء هذه الأسرة، وإن أُهمل داخلَ هيئةٍ أو مجتمعٍ لحقهما الضرر الكبير، أما إن أهملت على مستوى الدولة أفضى ذلك إلى وقوع الكثير من التوتّر والاضطرابات والمشاكل على نفس المستوى.

أجل، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: “ما نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ[1]. ويُفهم من إطلاق اللفظ هنا أنه لا بدّ من تطبيق هذا المبدأ في كلّ نواحي الحياة على أن تكون البداية من أصغر دائرة.

آداب المناقشة والمدارسة عند الشورى

 وبعد أن تطرّقنا بإيجازٍ إلى ضرورة وأهمّية الشورى عمومًا؛ نعرّج الآن على شروط الشورى المثاليّة:

بدايةً أقول: إن اتّخذ الفرد قرارًا بينه وبين نفسه واعتبره من المسلّمات، ثم حاول نسج كلّ المسائل وفقًا لهذه المسلّمات فهذا يعني الجهلَ بروح الشورى، وحتى لا يتدخل الشخص بهواه في الأمر، ولا يحسبن هواه هو عين العقل والمنطق؛ ولذا ينبغي له أن يقيّم الآراء التي ترِدُ على خاطره -بشأن الأمور المناط التشاور حولها- بعقلٍ وحسٍّ وقلبٍ سليم، فضلًا عن حواسّه الباطنيّة، ويسجّل ملاحظاته حيال ذلك، ويحدّد إطار الموضوعات التي سيتمّ التشاور حولها، وبعد ذلك يطرح الموضوع على طاولة المشاورات، وليس من الصواب توقُّع حسن القبول دائمًا لأفكارنا المطروحة عند التشاور حتى وإن كنّا نعتقد أصالة وجودةَ هذه الأفكار والمقترحات، ومن ثمّ فإذا لم تلقَ مقترحاتُنا في مجلس الشورى حسنَ القبول؛ فعلينا أن نقول لأنفسنا: “معنى ذلك أنني لم أستوعب المسألة تمامًا أو أنني أخطأت في فهمها”، ولا نعاند أو نصرّ على آرائنا.

أما عن الأصول التي يجب اتّباعها في الشورى؛ فهي المناقشة والمدارسة، وهما لا يعنيان قطعًا الجدال والخلاف، وقد حُرّرت في آداب المناقشة والمناظرة عدةُ مؤلفات، ووُضِعت لها مبادئ وضوابط حتى تتمحور حول الكتاب والسنة، والمناظرة تعني في الحقيقة: مقابلةَ النظائر في مسألة ما، فمثلًا عند التشاور في مسألةٍ خاصّةٍ بالاقتصاد نجد أن كلّ الآراء تشبه بعضها بعضًا لأن الموضوع يدور حول الاقتصاد، والهدف الحقيقي هنا هو تبلوُر الحقيقة وظهورها؛ لأن “بوارق الحقيقة تتجلّى من تصادم الأفكار”[2] أما الخلاف والجدال فلا يولّدان ومضات الحقيقة، بل التفرقةَ والانقسام؛ لأن الأصل في المناظرة هو الإنصاف واحترام رأي الآخر، أما الجدال فالشأن فيه الإصرار على الرأي ومحاولة إيقاع الخصم في موقفٍ حرجٍ.

وفي الواقع لا يُمنى المغلوب بأيِّ خسارةٍ عند التشاور في أمرٍ ما؛ لأنه حينذاك يدرك خطأ رأيه، ويتعلّم شيئًا جديدًا لم يعرفه من قبل، أما الغالب فما فعله هو أن كرّر رأيه في المسألة فحسب، وربما يصيبه الكبر والغرور ويقول: “انظروا لقد كنتُ محقًّا في رأيي”. (يتبع…)

[1] الطبراني: المعجم الصغير، 175/2.

[2] “ضياء باشا (Ziya Paşa)” (1825- 1880م): شاعر تركي، كان من دعاة التجديد، له ديوانان “ظفرنامه” و”خرابات” في ثلاث مجلدات.